فصل: فصل في الابتلاء والتمكين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في الابتلاء والتمكين:

وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلىَ فَقَالَ لا َيُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى واللهُ تَعَالَى ابْتَلى أُولًي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَلَمَّا صَبَرُوْا مَكّنَهُمْ.
فَلاَ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الأَلَمِ البَتَّةَ وإِنَّمَا تَفَاوَتَ أَهْلُ الآلامِ فِي العُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلماًً مُسْتَمِرّاً عَظِيْماً بأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيْرٍ وأشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الأَلَمَ المُنْقَطِعَ اليَسِيْرَ بالألمِ العَظِيْمِ المُسْتَمِرْ. فَإِنْ قِيْلَ كَيْفَ يَخْتَارُ العَقْلُ لِهَذَا؟ قِيْلَ الحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقدُ والنَّسيْئَةُ والنَّفْسُ مُوَكَّلَةٌ بِالعَاجِلِ: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أيّ الدُّنْيَا: {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ}، {إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} وهَذَا يَحْصُلُ لِكُلَّ أحَدٍ فَإِنّ الإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ لابُدَّ لَهُ أنْ يَعِيْشَ مَعَ النَّاسِ.
وَالنَّاس لّهُمْ إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عَلَيْهَا وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والْعَذَاب تَارَّة مِنْهُمْ، وتَارَّة من غيرهم كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إِلا بموافقته لّهُمْ وسكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثُمَّ يسلطون عَلَيْهِ بالإهانة والأذى أضعاف ما كَانَ يخافه ابتداء لو أنكر عَلَيْهمْ وخالفهم وإن سلم مِنْهُمْ فلابد أن يهان ويعاقب علي يد غيرهم.
فالحزم كُلّ الحزم في الأخذ بما قَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين لمعاوية: من أرضي الله بسخط النَّاس كفاه الله مؤنة النَّاس ومن أرضى النَّاس بسخط الله لم يغنوا عَنْهُ شَيْئاً.
ومن تأمل أحوال العَالَم رأي هَذَا كثيراً فيمن يعين الرؤساء علي أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أَهْل البدع علي بدعهم هرباً من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نَفْسهُ امتنع من الموافقة علي فعل المحرم وصبر علي عداوتهم ثُمَّ يكون له العاقبة في الدُّنْيَا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العِلماًء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم ولما كَانَ الألم لا محيص منه البتة عزي سُبْحَانَهُ من اختار الألم اليسير المنقطع علي الألم العَظِيم المستمر بقوله: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
فضرب لمدة هَذَا الألم أجلاً لابد أن يأتي وَهُوَ يوم لقائه فيلتذ الْعَبْد أعظم اللذة بما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هَذَا العزاء والتسلية برجَاءَ لقائه ليحمل الْعَبْد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه علي تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبة الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهَذَا سأل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه فَقَالَ الدُّعَاء الَّذِي رواه أَحَمَد وابن حبان:
اللَّهُمَّ إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك علي الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك نعيماً لا ينفذ وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرِّضَا بعد الِقَضَاءِ وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللَّهُمَّ زينا بزينة الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين.
فالشوق يحمل المشتاق علي الجد في السير إلى محبوبه ويقرب عَلَيْهِ الطَرِيق ويطوي له العبيد ويهون عَلَيْهِ الآلام والمشاق وَهُوَ من أعظم نعمة أنعم الله بها علي عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأفعال وأعمال هما السبب الَّذِي تنال به وَاللهُ سُبْحَانَهُ سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وَهُوَ عليم بمن يصلح لهذه النعمة كما قال تَعَالَى: {فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللّهُ عَلَيْهمْ مِن بَيْنِنَا ألَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
فإذا فاتت الْعَبْد نعمة من نعم ربه فليقَرَأَ علي نَفْسهُ: {ألَيْسَ الله بأعلم بالشاكرين} ثُمَّ عزاهم تَعَالَى بعزاء آخر وَهُوَ أن جهادهم فيه إنما هُوَ لأنفسهم وثمرته عائدة عَلَيْهمْ وإنه غني عن العالمين ومصلحة هَذَا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سُبْحَانَهُ ثُمَّ أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين ثُمَّ أخبر عن حال الداخل في الإِيمَان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة النَّاس له كعذاب الله.
وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الَّذِي لابد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذَلِكَ الَّذِي ناله مِنْهُمْ كعذاب الله الَّذِي فر منه المؤمنون بالإِيمَان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإِيمَان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب.
وهَذَا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة النَّاس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كُلّ الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلى ألمِ الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني معكم والله عليم بما انطوي عَلَيْهِ صدره من النفاق.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ اقتضت حكمته أنه لابد أن يمتحن النُّفُوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النُّفُوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب لا يخلص ولا يصفو من غشه إِلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقَدْ حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية فإن خَرَجَ في هذه الدار وإِلا ففي كير جهنم فإذا هُذِّبَ الْعَبْدُ ونقي أذن له في دخول الْجَنَّة.
قال الناظم رَحِمَهُ اللهُ:
وَإِنَّ جِهَادَ الكُفْرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ** وَيَفْضُلُ بَعْدَ الفَرْضِ كُلَّ تَعَبُّدِ

لأَنَّ بِهِ تَحْصِيْنُ مِلَّةِ أَحْمَدٍ ** وَفَضْلُ عُمُومِ النَّفْعِ فَوْقَ المُقَيَّدِ

فَلِلّهِ مَنْ قَدْ بَاعَ للهِ نَفْسَهُ ** وجُوْدُ الفَتَى فِي النَّفْسِ أَقْصَى التَّجَوُّدِ

وَمَنْ يَغْزُ إِنْ يَسْلَمْ فَأجْرٌ ومَغْنَمٌ ** وإِنْ يَرْدَ يَظْفُرْ بالنَّعِيْمِ المُخَلَّد

وَمَا مُحْسِنٌ يَبْغِيْ إِذَا مَاتَ رَجْعَةً ** سِوَى الَّشَهَدا كَيْ يَجْهَدُوْا فِي التَّزَودِ

لِفَضْلِ الَّذِي أُعْطْوا وَنَالُوا مِنَ الرِّضَى ** يَفُوقُ الأَمَانِيْ فِي النَّعِيمِ المُسَرْمَدِيْ

كَفَى أَنَّهُمْ أَحْيَا لَدَى اللهِ رُوْحُهُمْ ** تَرُوْحُ بِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَتَغْتَدِيْ

وغُدْوَةُ غَازٍ أَوْ رَواحُ مَُجاهِدٍ ** فَخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا بِقَوْلِ مُحَمَّدِ

يُكَفَّرُ عَنْ مُسْتَشْهَدِ البَرِّ مَا عَدَا ** حُقُوقَ الوَرَى والكُلُّ فِي البَحْرِ فَاجْهَدِ

وَقَدْ سُئِلَ المْخُتَارُ عَنْ حَرِّ قَتْلِهِمْ ** فَقَالَ يَرَاهُ مِثْلَ قَرْصَةِ مُفْرَدِ

كُلُوْمُ غُزَاةِ اللهِ ألوَانُ نَزْفِهَا ** دَمٌ وكَمِسْكٍ عَرْفُهَا فَاحَ فِي غَدِ

وَلَمْ يَجْتَمِعَ فِي مَنْخِرِ المَرْءِ يَا فَتَى ** غُبَارُ جِهَادٍ مَعَ دُخَانٍ لَظَى أشْهَدِ

كَمَنْ صَامَ لَمْ يُفْطِرْ وقَامَ فَلَمْ يَنَمْ ** جِهَادُ الفَتَى فِي الفَضْلِ عِنْدَ التَّعَدُّدِ

لَشَتَانَ مَا بَيْنَ الضَّجِيْعِ بِفُرْشِهِ ** وسَاهِرِ طَرْفٍ لَيْلَةً تَحْتَ أَجْرَدِ

يُدَافِعُ عَنْ أََْهْلِ الهُدَى وَحِرْيْمِهِمْ ** وَأْمَواِلِهْم بِالنَفْسِ والْمَالِ واليَد

وَمَنْ قَاتَلَ الأَعْدَاءَ لإِعْلاَءِ دِيْنِنَا ** فَذَا فِي سَبِيْلِ اللهِ لاَ غَيْرُ قَيِّدِ

وَيَحْسنُ تَشْيِيْعُ الغُزَاةِ لِرَاجِلٍ ** وَحَلَّ بِلاَ كُرْهٍ تَلَقِيْهُمُ أشْهَدِ

وأَهْلُ اْلكِتَابِ والمَجُوسُ إِنْ تَشَا أغْزُهُمْ ** بِغَيْرِ دُعَاءٍ إِذْ بِإِبْلاغِهِمْ بُدِيْ

ويُغْزَوْنَ حَتَّى يُسْلِمُوْا أَوْ يُسَلِّمُوْا ** صَغَاراً إِلَيْنَا جِزْيَةَ الذُّلِ عَنْ يَدِ

وَغَيْرُ أُولَى فَلْيُدْعَ قَبْلَ قِتَالِهِ ** إَلى أَشْرَفِ الأدّيَانِ دِيْنِ مُحَمَّدِ

وَعَرِّفْهُ بالبُرْهَانِ حَتْمَ اِتِّبَاعِهِ ** وَلاَ تَقْبَلَنْ مِنْهُ سِوَاهُ بأَوْطَدِ

وإِنَّ رِبَاطَ المَرْءِ أَجْرٌ مُعَظَّمٌ ** مُلازِمُ ثَغْرِ لِلِّقَا بالتَّعَدُّدِ

ويَجّْرِيْ عَلَى مَيْتٍ بِهِ أَجْرُ فِعْلِهِ ** كَحَيٍ وَيُؤْمَنْ بافْتِتَانِ بمَجْلَدِ

وَلاَ حَدَّ فِي أَدْنَاهُ بَلْ أرْبَعُوْنَ فِي الـ ** تَّمَامِ ويُعْطَى أَجْرَ كُلِّ مُزَيَّدِ

وأَفْضَلُهُ مَا كَانَ أخْوَفَ مَرْكَزاً ** وأَقْرَبَ مِنْ أرْضِ الْعَدُوِّ المُنَكِدِ

وَذَلِكَ أَثْنَى مِنْ مُقَامٍ بمَكَةٍ ** وَفِي مَكَّةٍ فَضْلُ الصَّلاَةِ فَزَيَّد

وَمَنْ لَمْ يُطِقْ فِي أرْضِ كُلِّ ضَلاَلةٍ ** قَياماً وَإِظهَاراً لِدِيْنِ مُحَمَّدِ

فَحَتْمٌ عَلَيْهِ هِجْرَةٌ مَعَ أَمْنِهِ الْـ ** هَلاَكَ وَلَوْ فَرْداَ وَذَاتَ تَعَدُّدِ

بِلاَ مَحْرَمٍ مَشْياً وَلَوْ بَعَدُ المَدَى ** لِفِعْلِ الصَّحَابِيَاتِ مَعَ كُلِّ مُهْتَد

اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فائدة جليلة:
وَقَالَ إذا أصبح الْعَبْد وأمسي وليس همه إِلا الله وحده يحمل الله سُبْحَانَهُ حوائجه كُلّهَا وحمل عَنْهُ كُلّ ما أهمه، وفرغ قَلْبهُ لمحبته ولِسَانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسي والدُّنْيَا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نَفْسهُ فشغل محبته بمحبة الخلق ولِسَانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}. اهـ.
كَأنِّي بنَفْسِيْ قَدْ بَلَغْتُ مَدَى عُمْرِي ** وأنْكَرْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أَعْرِفْ مِنْ دَهْرِي

وَطَالَبَنِيْ مَنْ لاَ أَقُوُمُ بِدَفْعِهِ ** وحُوِّلْتُ مِنْ دَارِي إِلى ظُلْمَةِ القَبْرِ

وَفَازَ بِمِيْرَاثِي أُنُاسٌ فَشَتَّتُوْا ** بإِفْسَادِهِمْ مَا كُنْتُ أَجْمَعُ فِي عُمْرِي

وأَهْمَلَنِي مَنْ كَانَ يُبْدِي مَحَبَّتِيْ ** وأُخْلِصُهُ وُدِّيْ ويَغْمِرُهُ بِرِّيْ

وَلَمْ يَسْخُ لِي مِنْهُمْ صَدِيْقُ بِدَعْوَةٍ ** إِذَا مَا جَرَى يَوماً بحَضْرَتِهِ ذِكْرِي

وأَضْحَى لِبَيْتِيْ سَاكِنٌ مُبْهَجٌ بِهِ ** وفِي اللّحْدِ بَيْتِيْ لاَ أَقُوْمُ إَلى الحَشْرِ

فَيَا شِقْوَتِي إنْ لَمْ يَجْدْ بنَجَاتِهِ ** إِلَهْي ولَمْ يَجْبُرْ برَحْمَتِهِ فَقْرِي

فَقَدْ أثقُلْتْ ظَهْرِي ذُنُوْبٌ لَوْ أنَّهَا ** عَلَى ظَهْرِ طُوْرٍ أَثْقَلَتْهُ مِنْ الوِزْر

.موعظة:

عِبَادَ اللهِ مضي رِجَال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين الموقنين لذَلِكَ كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كَانُوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عَلَيْهَا وَهُوَ تَعَالَى خَيْر شاهد.
كَانُوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين لهُمْ أنين كأنين المرضي ولهم حنين كحنين الثكلى وكَانُوا ربما مروا بالآية من كتاب الله فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عَلَيْهمْ ومرضوا بعدها مَاتَ أولئك السَّلَف الصالح الَّذِينَ تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.
وماتت تلك الخشية وأعقبها قَسْوَة أذهلت العباد عن طاعة الله فصاروا يأتون ويذرون ما يذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه.
وغدت جوارحهم مطلقة في كُلّ ما يغضب الله وصَارَت أفعالهم فوضي لَيْسَ لها ضوابط ولا قيود العين تجول في المناظر المحرمة من نساء سافرات إلى سينماء إلى تلفزيون إلى الفيديو معلم الفساد إلى كورة إلى مجلاتٍ في طيها الشرور إلى صورة مجسدة وغير مجسدة إلى كتب هدامة للأَخْلاق إلى غير ذَلِكَ من المحرمَاتَ التي تجرح القُلُوب.
والفرج يسرح كما شَاءَ إلى الفواحش الدين ضعيف والخلق فاسد والأذنُ لا تشبع من سماع ما يسخط ربها والبطن يستزيد من سحت الأقوات.
وأما اليد فحدث ولا حرج في تعدي الحدود وأما اللسان فليله ونهاره يتحرك ويتقلب في منكر القول وزوره ولا كأن ربه السميع البصير العليم موجود وتراه في أعراض الغوافل ويمزق جلودهم في السب والغيبة والبهت والكذب ولا يعف عن عرض أي بشر.
ويحلف بِاللهِ العلي العَظِيم كُلّ يوم مرات ولا يهمه أبر في يمينه أم فجر وأما وعوده وعهوده وعقوده فتهمل ولا كأنه مكلف باحترامها فهَذَا وأمثاله قَدْ انهمكوا في المعاصي وتوغلوا فيها وصَارَت عندهم عادات وشَيْء طبعيٌّ مألوفٌ لهُمْ.
ولذَلِكَ إذا مررت بِهُمْ أو مررت حول بيوتهم استوحشت من سماع الأغاني والرقص والمطربين والسب واللعن والقذف والاستهزاء بالدين وأخذت في العجب بين هَؤُلاَءِ وأولئك الَّذِينَ في أوقات التجليات في حنادس الظلم يناجون ربهم راغبين في رضوان العزيز الجبار خائفين من سخط المنتقم القهار متفكرين في سرعة حلول الْمَنَايَا التي تسارع الأيام والليالي في اقترابها وموقنين بأنهم محاسبون علي الفتيل والنقير والقطمير عالمين بأنهم مكلفون بواجبات عبودية ما قاموا بالقليل منها وهم عَنْهَا مسؤلون وعلي ما قدموه من خَيْر وشر قادمون.
وهل حال هَؤُلاَءِ السعداء في جانب أولئك التعساء الأشقياء إِلا كحال المصاب بالجنون في جانب أوفر النَّاس عقلاً وأكملهم وقاراً فأكثر يا أخي من قولك الحمد لله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلاهم الله يعافيهم ولا يبلانَا قال تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
وَكُلَّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ** وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّيْنِ جُبْرَانُ

فتنبه أيها المُؤْمِن واعْلَمْ أنك مسئول عن كُلّ ما تعمل لا مهمل كالأنعام فانهج نهج الاستقامة وراقب ربك في مصادرك ومواردك لتقف عَنْدَ الحدود قال بعض المرشدين إلى معَالِم الرشد ضارباً لذَلِكَ مثلاً:
واعْلَمْ أن الإِنْسَان في تقَلْبه في أطوار حياته كمثل غريب ألقت به المقادير إلى قوم استقبلوه بترحاب وتكريم وكَانَ ذَلِكَ النازل فاقَد القوى غير عَالِم بما عَلَيْهِ القوم من الشئون ولا يدري من أين أتي ولا إلى أين يذهب.
فقام القوم بواجبات خدمته وإكرامه حتى قويت حواسه وجوارحه ومداركه وأخذ يعمل القوم فَجَاءَ رجل من علائقهم قائلاً: يا هَذَا إن هذه الدار التي توطنها مكرموك ما هِيَ دار إقامة ولا هِيَ مملوكة لأحد من الخلق ولكنهم أمثالك نزلاء من كَانُوا يعمرون هذه الدار قبلهم ثُمَّ رحلوا وتركوها وما كَانَ رحيلهم إلى مكَانَ بعيد ولكنه كَانَ إلى سجن ضيق ومكَانَ مظلم لو أرسلت ببصرك لرأيته وقَدْ فقدوا تلك القوي وتناسوا ذَلِكَ النَّعِيم.
ثُمَّ أخذ بيده إلى مكَانَ قفر وأعني به المقبرة وَقَالَ له: هَذَا مراح القوم ومسقط رؤوسهم وإن الطَرِيق التي توصلك إلى هَؤُلاَءِ القوم هِيَ الطَرِيق التي سلكها مكرموك وإنها لطَرِيق ذات عقبات مهلكة ولها أوحال من تورطها هلك ولا مخلص من تلك الأحوال إِلا بتجنب تلك العقبات أو تجاوزها عدواً.
فإن رمت السلامة فسر فريداً متحفظاً من تخاصم القوم وتنازعهم ومن ملاهييهم وألعابهم ولا تصغ لمن يناديك من خلفك فإن الَّذِي يناديك من خلفك في طَرِيق النجاة هُوَ أجهل منك بها ولا تخالف من ناداك من الأمام فَإِنَّهُمْ أدري منك بمفاوز الطَرِيق.
وإياك أن تشتبه عَلَيْكَ الطرق وأصوات المنادين فإن طَرِيق السلامة لها أعلام ومصابيح نيرة علي رأس كُلّ مرحلة من مراحلها وأما باقي الطرق فإنها مظلمة موحشة مهلكة وما هِيَ إِلا طَرِيق واحدة ولكنها ذات شعب ومسارب كثيرة.
فاحذر أن تتهاون بنفسك كما تهاون القومُ بنفوسهم فهلكوا وهم لا يشعرون فإن كَانَ النازل الغريب علي استعداد لتعقل النصائح وذا قابيلة تقبل الإرشاد وقف علي أفواه الطَرِيق وفتح عينيه واستعمل فكره وتبصر في أمره وتدبر عواقب ما عَلَيْهِ وأخذ لنفسه بأحوط الأحوال وأقربها إلى السلامة وجعل عينه متجهة للنظر إلى منازل الراحلين التي لا أنيس بها ولا جلَيْسَ.
وَتَأَمَّلَ سُرْعَةَ الرَّحِيْلِ وقِصَرَ أَوْقَاتِ الإقَامَةِ وتَجَنَّبَ الألْعَابَ والمَلاَهِي وسَلَكَ سَبِيْلَ المُهْتَدِيْنَ وإِنْ كََانََ ضَيِّقَ الحَضِيْرَةِ قَاصِرَ النَّظَرِ ضَعِيْفَ الهِمَّةِ ضَائِعَ العَقْلِ سَيئَ التَّصَوُرِ فَاقِدَ الفِكْرِ خَبِيْثَ الاسْتِعْدَادِ لَئِيْمَ الطَّبْعِ لا يَجِدُ بُداً مِنْ مُنَازَعَةِ اللاَّعِبِيْنَ ومُسَابَقَةِ اللاَّهِيْنَ وَتَغَافََِل عَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وسُوْءِ مَصِيْرِهِ وتَبَاعَدَ عَنْ صِيَاحِ النَّاصِحِيْنَ وأَصْغَى إِلى مُدَاهَنةِ الغَاوِيْنَ أَصْبَحَ مِنْ النادِمِيْنَ.
وما ضربنا لك هَذَا المثل إِلا لتعلم أنك أَنْتَ الغريب الَّذِي نزلت يوم ولدتك أمك بقومك وأَنْتَ ضعيف القوي لا تعلم شَيْئاً كما قال تعالى: {والله أخرجكم من بطونِ أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمَعَ والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} ففرح بك قومك وأكرموك إلى أن قويت الآت أعمالك وصرت تحسن الرحيل وحدك.
ونريد بالرحيل هنا سلوك إحدى الطريقين إما طَرِيق الكمالات وإما طَرِيق النقائص لأنهما مسارب المكلفين الَّذِينَ لابد لهُمْ من السير فيها للوصول إلى أحد الغايتين فإنه ما من طَرِيق إِلا ولها غاية ينتهي إليها مسير سالكها.
وما نريد بالرجل العاقل المرشد إِلا صاحبَ الرسالة عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام أو النائب عَنْهُ في تبليغها وما نريد بمن يناديك من الأمام إِلا السَّلَف الصالح الَّذِينَ سبقونا بالإِيمَان وبينوا لنا طَرِيق النجاة أو الأتقياء المقتفون لآثارهم الَّذِينَ ثبتت استقامتهم.
وما نريد بالَّذِينَ ينادوك من خلفك إِلا الَّذِينَ لا قدم لهُمْ في طَرِيق النبوة فلم يسلكوا سبيل المهتدين بل اعتمدوا في إرشادهم علي مقال لا حال معه ولا عمل وهَذَا لا تصلح متابعته لأنهم أجهل النَّاس بطَرِيق الاستقامة.
وما أَهْل الاستقامة إِلا الَّذِينَ راقبوا قُلُوبهمْ وأمسكوا ألسنتهم وطهروا أقلامهم فلا عزم لهُمْ إِلا علي أعمال البر والمواساة ولا يقولون إِلا الحق المنجي ولا يكتبون إِلا ما لو سئلوا عَنْهُ يوم القيامة لأحسنوا الإجابة والَّذِينَ يذكرون الله كثيراً وإذا ذكر الله وجلت قُلُوبهمْ والبكاؤون من خشية الله المقتفون لآثاره صلى الله عليه وسلم.
نُورُ الْحَدِيْثِ مُبِيْنٌ فَادْنُ وَاقْتَبِسِ ** وَاحْدُ الرِّكَابَ لَهُ نَحْوَ الرِّضَا النَّدُسِ

مَا العِلْمُ إِلاَ كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ ** يَجْلُو بِنُوْرِ هُدَاهُ كُلِّ مُلْتَبِسِ

نُوْرٌ لِمُقْتَبِسٍ خَيْرٌ لِمُلْتَمِسٍ ** حِمىً لِمُخْتَرِسٍ نُعْمَى لِمُبْتَئِسِ

فاعْكُفْ بِبَابِهِمَا عَلَى طِلابِهِمَا ** تَمْحُوْ العَمَى بِهِمَا عَنْ كُلِّ مُلْتَبِس

وَرِدْ بِقَلْبِكَ عذْباً مِنْ حِيَاضِهِمَا ** تَغْسِلْ بِمَائِهِمَا مَا فِيْهِ مِنْ دَنَسِ

واقْفُ النَّبِيَّ واتْبَاعَ النَّبِيّ وَكُنْ ** مِنْ هَدْيِهِمْ أَبَداً تَدْنُوْ إِلى قَبَسِ

والْزَمْ مَجَالِسَهُمْ وَاحْفَظْ مُجَالِسَهُمْ ** وَانْدَبِ مَدَارِسَهُمْ بالأرْبُعِ الدُّرُسِ

واسْلُكْ طَرِيْقَهُمْ وَاتْبَعْ فَرِيقَهُمُ ** تَكُنْ رَفِيْقَهُمُ فِي حَضْرَةِ القُدُسِ

تِلْكَ السَّعَادَةُ إِنْ تُلْمِمْ بِسَاحَتِهَا ** فَحُطَّ رَحْلَكَ قَدْ عُوْفِيْتَ مِنْ تَعَس

وما نريد بمراحل حياتك إِلا الأطوار التي تتقلب بك فيها الشمس كُلَّما غربت أو أشرقت وتنتقل بك إليها الليالي وأَنْتَ لا تشعر فما أسرع مُرُور الشمس بك إلى نهاية أجلك وما أغفلك عن عملها فيك.
وما نريد بأوحال حياتك إِلا متابعة شهواتك عَنْدَ بلوغ الحلم فإن لطور الشبوبية أوحال مهلكه وهي الشهوات البهيمية التي تضطر الشباب الَّذِي غلبت شهوته عقله إلى مغازلة الغانيات ومعانقة الملاهي وتعاطي المحرمَاتَ فيصير قي أوحال تناسبه.
وما من أحد تستطيع تلك الأوحال إِلا الَّذِي وفقه الله فتباعد عن ظلمَاتَ الزيغ وتنور بنور العلم الديني الَّذِي علمه العليم الخبير لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمره بتعليمه للناس لأنه جل شأنه هُوَ الحكيم العليم الَّذِي علم الداء ودبر الدواء قال تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، انتهى بتصرف يسير.
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ ** يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُوْرُ

قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وأُضْعِفَتْ ** حَرّاً عَلَى رُؤُسِ العِبَادِ تَفُوْرُ

وَإِذَا الجِبَالَ تَعَلّقَتْ بأُصُوْلِهَا ** فَرَأَيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيْرُ

وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاسَرَتْ ** وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضّيَاءِ كَدُوْرُ

وَإِذَا العِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا ** خَلَتِ الدَّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُوْرُ

وَإِذَا الوُحُوْشُ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَت ** وَتَقُوْلُ لِلأَمْلاَكِ أَيْنَ نَسِيْرُ

فَيُقَالُ سِيْرُوْا تَشْهَدُوْنَ فَضَائِحاً ** وَعَجَائِباً قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُوْرُ

وَإِذَا الجَنِيْنُ بِأُمِّهِ مُتَعَلِّقٌ ** خَوْفَ الحِسَابِ وقَلْبُهُ مَذْعُوْرُ

هَذَا بِلاَ ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ ** كَيْفَ الْمُقِيْمُ عَلَى الذُّنُوْبِ دُهُوْرُ

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي محبتك في قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطَاعَتكَ وامتثال أمرك اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمبن وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.